اطلب الخدمة
الدليل الأنطولوجي من منظور السهروردي
إنّ من أعظم وأسمى الأمور التي يمكن للإنسان البحث عنها في هذا الوجود هو البحث في ماهية الوجود ذاته، والبحث عن مُوجد الوجود، والتنقيب عن السرّ الأعظم الكامن خلف هذا الكون. فمن الذي أوجد الوجود بهذا النمط الحكيم، وهذه الدقة المحكمة؟
لا شك أن هناك من تراودهم لحظات يتساءلون فيها: هل لهذا الوجود مُوجد؟ أم أنه وجد مصادفة، أو حدث بطريقة عشوائية كما يزعم بعض الملاحدة؟
وبالنظر في الأدلة الوجودية لإثبات وجود مُوجد لهذا الكون، لا نجد دليلاً أقرب إلى الأذهان، وأيسر على العقول، وأكثر توافقًا مع الفِطر السليمة من "الدليل الأنطولوجي"، وذلك لكونه دليلاً فطريًا يخاطب وجدان الإنسان، ويدور حول فكرة الكمال.
وفي إطار بحثنا في هذا الدليل، وجدنا أن السهروردي قد ترك فيه بصمة تستحق التوقف عندها، لذا نعرض في هذا المقال الوجيز لمحة سريعة عن "الدليل الأنطولوجي": ما هو؟ وكيف تناوله السهروردي، الفيلسوف الصوفي الكبير، من منظور صوفيّ وجدانيّ عميق؟
هو شهاب الدين يحيى بن أميرك السهروردي، وُلد في منتصف القرن السادس الهجري (549هـ) في قرية "سُهرورد"، حيث تلقّى علومه الأولية في الثقافة والدين والفكر والفلسفة. عُرف بالجرأة، والشجاعة، والإقدام الفكري، والثقة بالنفس رغم حداثة سنّه، مما جعله في موضع تصادم مستمر مع الفقهاء في عصره.
يُعرف بـ "أبو حكمة الإشراق"، وتتميّز فلسفته الوجودية بالأصالة والتفرّد، حتى إنها بلغت مرتبة رفيعة من التأمل والعمق الفكري.
تتمحور فلسفة السهروردي حول إيمانه بمبدأ واحد في غاية الأهمية، وهو "النور"، فقد كان يعتقد أن النور هو المبدأ الكلّي للوجود، وأصل كل الأشياء.
ولا يخفى علينا أن فترة حياة السهروردي كانت من أشد الفترات اضطرابًا من الناحية الفكرية والمذهبية والسياسية.
فقد عاش في وقت عصيب، اندلعت فيه الحروب الصليبية، واشتدت فيه الصراعات الفكرية والمذهبية، وكانت تلك المرحلة معروفة بالخلافات العقائدية التي كثيرًا ما كانت تؤدي إلى القتل والحروب.
وبسبب حظه العاثر، ولِما عُرف به من جرأة في الطرح وتحرّر في الفكر، اتُّهم السهروردي بالكفر والزندقة، فقُتل بهذه التهم في عام (587هـ)، عن عمرٍ ناهز الثامنة والثلاثين.

لا شكّ أن كل إنسان، مهما كانت درجته العقلية أو الوجدانية، يستشعر في أعماق عقله وقلبه ضرورة وجود موجود ليس هناك من هو أكمل منه.
وفكرة الكمال تظلّ ناقصة ما لم يوجد لها مقابل في الواقع، ولكي تكون كاملة، فلا بدّ أن تكون متحققة خارجيًا، وأن تكون في غاية الكمال.
إذًا، هناك موجود في الخارج غاية في الكمال، لا يوجد من هو أكمل منه، وهو الله.
فالفكرة الأنطولوجية تنشأ في النفس الإنسانية وتستقرّ فيها، بناءً على أن هذا الهيكل الكوني المنظّم، إذا كان صحيحًا ومنسجمًا، فلا بدّ له من خالق عظيم، كامل إلى أقصى حد، وهو الله.
إنه دليل فطري من الدرجة الأولى، يخاطب الفطرة الإنسانية التي لا تستطيع إنكار وجود "واجب الوجود".
فالصوت الداخلي في كل إنسان لا بدّ وأن يهمس له، بل يناديه أحيانًا بأعلى صوت: أن لهذا الكون الدقيق والعظيم إلهًا خالقًا.
الدليل الأنطولوجي هو دليل يستدل على وجود الله من خلال تأمل الوجود ذاته، ومن خلال الوجدان الشعوري، والفطرة الإنسانية السليمة.
وبعد أن تبيّن لنا كيف يمكن للإنسان أن يدرك هذا الدليل الوجودي من خلال ما تستقر عليه نفسه وفطرته من أن للكون إلهًا في غاية الكمال، ننتقل الآن إلى صُلب المقال،وهو رؤية الفيلسوف الصوفي الإشراقي ونظرته للدليل الأنطولوجي.
يدور الدليل الأنطولوجي حول فكرة "الموجود الضروري الكامل اللامتناهي"، والتي من خلالها نصل إلى إثبات وجود الله.
وقد وردت حوله تعريفات كثيرة، جميعها تهدف في النهاية إلى هذا المعنى. منها قول "ميل ثومبسون":
(إن الدليل الوجودي لا ينبني على ملاحظة العالم، أو أي شاهد خارجي، بل ببساطة على تعريف "كلمة الإله". يُدَّعى أنه من خلال تعريفها، تشير كلمة الإله إلى شيء ضروري الوجود)
والقائلون بالدليل الأنطولوجي كُثُر، لكن أول من صاغه بنظرة نورانية إشراقية عُرفانية هو الفيلسوف الصوفي السهروردي.
فالسهروردي يبني دليله على جانب صوفيٍّ محض؛ إذ يرى أن الله عِلّة جميع الكائنات، وهو المبدأ الأول، ونور الأنوار، الذي خرجت منه جميع الأنوار.
فهو أول "ضروري الوجود"، أبدي، كامل، غني، لا تتوقف ذاته ولا كماله على غيره، سرمديّ.
فعلى سبيل المثال، نجده يقول نصًّا صريحًا في وصف "نور الأنوار":
"إن النور الإبداعي الأول فاض عن الأول، الذي هو نور الأنوار، وصدر عن النور الإبداعي الأول أنوار طويلة هي الجواهر العالية، وصدر عن الجواهر العالية أنوار عرضية هي أرباب الأنواع، وتدير شؤون العالم الحسي."
فهو يرى أن واجب الوجود يفيض عنه: (عالم العقول، وعالم النفوس، وعالم الأجسام)
- عالم العقول يحتوي على:الأنوار القاهرة
- عالم النفوس يحتوي على:النفوس المدبرة للأفلاك السماوية والأجسام الإنسانية
- عالم الأجسام يحتوي على:أجسام ما تحت فلك القمر،وأجسام الافلاك السماوية
كما أنه يقول أنه لا يوجد شيء يقتضي عدم ذاته أو عدم وجوده، وإلا لكان غير موجود أصلًا.
وأن "نور الأنوار" موجود، وحداني الذات، لا يوجد شرط في تحقق ذاته ووجوده. وكل ما عداه تابع له.
وحيث إنه لا شرط ولا ضد له، فهو إذًا غير مبطل لذاته، وعليه فإن وجوده سرمدي دائم، وإنه قيّوم بالذات.
إن الدليل الأنطولوجي عند السهروردي يدور حول "نور الأنوار" الذي أفاض بنوره على جميع الموجودات، وكلها تفتقر إليه.
بقلم الاستاذة: آلاء علي عبد الحكيم
ماجستير فلسفة كلية دار العلوم - جامعة القاهرة
يسر موقع المنارة للاستشارات دعوة الباحثين والكتّاب للمساهمة بمقالات علمية تُنشر في المدونة البحثية الخاصة بالموقع، وذلك مجانًا.
لمن يرغب بالمشاركة، يُرجى مراسلة فريق خدمة العملاء عبر البريد الإلكتروني: admin@manaraa.com
شروط النشر:
- أن لا يتجاوز المقال 500 كلمة.
- خلوّه من الأخطاء الإملائية والنحوية.
- أن يكون متعلقًا بالبحث العلمي.
- ألا يتضمن أي إعلان لمؤسسة أو شخص.
- أن قبول المقال مرتبط بمدى جودة المحتوى وملائمته بعد اطلاع لجنة التحرير لدينا
- يُفضّل تزويدنا بـاسم كاتب المقال، الرتبة أو الوظيفة.
نرحب بإبداعاتكم ومساهماتكم العلمية!
لطلب المساعدة في إعداد رسالة الماجستير أو الدكتوراة يرجى التواصل مباشرة مع خدمة العملاء عبر الواتساب أو ارسال طلبك عبر الموقع حيث سيتم تصنيفه والرد عليه في أسرع وقت ممكن.
مع تحيات: المنارة للاستشارات لمساعدة الباحثين وطلبة الدراسات العليا - أنموذج البحث العلمي